فصل: سبب نزول السورة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.سبب نزول السورة:

قال الدكتور محمد أبو شهبة:
5- سبب نزول عليه أثر العصبية السياسية:
ومن ذلك: ما يذكره بعض المفسرين في سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر}، قال السيوطي في (الدر المنثور): أخرج، وضعفه، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن يوسف بن مازن الرؤاسي، قال: قام رجل إلى الحسين بن علي، بعدما بايع معاوية، فقال: سودت وجوه المؤمنين، فقال: لا تؤنبني رحمك الله؛ فإن النبي رأى بني أمية على منبره، فساءه ذلك فنزلت: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، ونزلت: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر وَمَا أَدْرَاكَ ما ليلة القدر ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر} يملكها بنو أمية، يا محمد، وقد حكم عليه ابن الجوزي بالوضع، وقال فيه ابن كثير: إنه منكر جدا، وحكم ببطلان هذا التأويل أيضًا ابن جرير في تفسيره، حيث قال بعدما ذكر هذا الحديث ضمن أقوال ذكرها، قال: وأشبه الأقوال بظاهر التنزيل من قال: عمل في ليلة القدر خير من عمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وأما الأقوال الأخر، فمعانٍ باطلة لا دلالة عليها من خبر ولا عقل، ولا هي موجودة في التنزيل1، وهذا الحديث معناه غير صحيح، فإن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه استقل بالملك حين سلم إليه الحسن سنة 40هـ، واستمر ملكهم إلى سنة 132هـ، لم يخرج ملكهم إلا الحرمان، والأهواز، مدة ابن الزبير وهي تسع سنين، وخروج بعض الجهات عن ملكهم في هذه المدة لا يكون مبررا لإنقاصها من ملكهم، فمدتهم إذًا: اثنان وتسعون عاما، وهي أكثر من الألف، ولو سلمنا إنقاص مدة ابن الزبير، فمدتهم لا توافق الألف وإن كانت تقرب منها فالحديث المزعوم كيفما حملناه فمعناه غير صحيح، مع أن لوائح الوضع ظاهرة عليه، والترمذي قال فيه: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم، وهو ثقة، وشيخه مجهول، والبلاء غالبا من المجاهيل، ومما يوهن الحديث ويدل على وضعه أنه سيق لذم دولة بني أمية، ولو أريد ذلك لم يكن بهذا السياق، فإن تفضيل ليلة القدر على أيامهم لا يدل على ذم أيامهم، وأيضا: فإن ليلة القدر شريفة، والسورة الكريمة نزلت لبيان شرفها، فكيف تمدح بتفضيلها على أيام بني أمية، وهي مذمومة بمقتضى هذا الحديث، فالحديث لا يعطي ما أراده الواضع من ذم أيامهم، كما يعارض ما دلت عليه السورة من شرف هذه الليلة، مما لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان وقديما قيل: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال نظام الدين النيسابوري:

.القراءات:

{شهر تنزل} بتشديد التاء: البزي وابن فليح {مطلع} بكسر اللام: على وخلف.

.الوقوف:

{في ليلة القدر} o ج للنفي والاستفهام والوصل أولى لاتصال المبالغة في التعظيم به {ما ليلة القدر} o ط لأن ما بعدها مبتدأ {شهر} o ط لأن ما بعده مستأنف {ربهم} ج لاحتمال تعلق {من كل} بقوله: {تنزل} ولاحتمال تعلقه بقوله: {سلام} أي هي من كل عقوبة سلام أو من كل واحد من الملائكة سلام من المؤمنين قاله ابن عباس: وعلى هذا يوقف على {أمر} ويوقف على {سلام} وقيل: لا يوقف على {سلام} أيضًا والتقدير: هي سلام من كل أمر حتى مطلع {الفجر} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر (1)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
أجمع المفسرون على أن المراد: إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، ولكنه تعالى ترك التصريح بالذكر، لأن هذا التركيب يدل على عظم القرآن من ثلاثة أوجه أحدها: أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصًا به دون غيره.
والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر.
شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التصريح، ألا ترى أنه في السورة المتقدمة لم يذكر اسم أبي جهل ولم يخف على أحد لاشتهاره، وقوله: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} [الواقعة: 83] لم يذكر الموت لشهرته، فكذا هاهنا والثالث: تعظيم الوقت الذي أنزل فيه.
المسألة الثانية:
أنه تعالى قال في بعض المواضع: {إِنّى} كقوله: {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وفي بعض المواضع {إِنَاْ} كقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في ليلة القدر}.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9]، {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نوح: 1]، {إِنَّا أعطيناك الكوثر} [الكوثر: 1].
واعلم أن قوله: {إِنَاْ} تارة يراد به التعظيم، وحمله على الجمع محال لأن الدلائل دلت على وحدة الصانع، ولأنه لو كان في الآلهة كثرة لانحطت رتبة كل واحد منهم عن الإلهية، لأنه لو كان كل واحد منهم قادرًا على الكمال لاستغنى بكل واحد منهم عن كل واحد منهم، وكونه مستغنى عنه نقص في حقه فيكون الكل ناقصًا، وإن لم يكن كل واحد منهم قادرًا على الكمال كان ناقصًا، فعلمنا أن قوله: {إِنَاْ} محمول على التعظيم لا على الجمع.
المسألة الثالثة:
إن قيل: ما معنى إنه أنزل في ليلة القدر، مع العلم بأنه أنزل نجومًا؟ قلنا فيه وجوه:
أحدهما: قال الشعبي: ابتداء بإنزاله ليلة القدر لأن البعث كان في رمضان.
والثاني: قال ابن عباس: أنزل إلى سماء الدنيا جملة ليلة القدر، ثم إلى الأرض نجومًا، كما قال: {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم} [الواقعة: 75] وقد ذكرنا هذه المسألة في قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] لا يقال: فعلى هذا القول لم لم يقل: أنزلناه إلى السماء؟ لأن إطلاقه يوهم الإنزال إلى الأرض، لأنا نقول: إن إنزاله إلى السماء كإنزاله إلى الأرض، لأنه لم يكن ليشرع في أمر ثم لا يتمه، وهو كغائب جاء إلى نواحي البلد يقال: جاء فلان، أو يقال الغرض من تقريبه وإنزاله إلى سماء الدنيا أن يشوقهم إلى نزوله كمن يسمع الخبر بمجيء منشور لوالده أو أمه، فإنه يزداد شوقه إلى مطالعته كما قال:
وأبرح ما يكون الشوق يومًا ** إذا دنت الديار من الديار

وهذا لأن السماء كالمشترك بيننا وبين الملائكة، فهي لهم مسكن ولنا سقف وزينة، كما قال: {وَجَعَلْنَا السماء سَقْفًا} [الأنبياء: 32] فإنزاله القرآن هناك كإنزاله هاهنا والوجه الثالث في الجواب: أن التقدير أنزلنا هذا الذكر: في ليلة القدر أي في فضيلة ليلة القدر وبيان شرفها.
المسألة الرابعة:
القدر مصدر قدرت أقدر قدرًا، والمراد به ما يمضيه الله من الأمور، قال: {إِنَّا كُلَّ شيء خلقناه بِقَدَرٍ} [القمر: 49] والقدر، والقدر واحد إلا أنه بالتسكين مصدر وبالفتح اسم، قال الواحدي: القدر في اللغة بمعنى التقدير، وهو جعل الشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان، واختلفوا في أنه لم سميت هذه الليلة ليلة القدر، على وجوه.
أحدهما: أنها ليلة تقدير الأمور والأحكام، قال عطاء، عن ابن عباس: أن الله قدر ما يكون في كل تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية، ونظيره قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكِيمٍ} [الدخان: 4] واعلم أن تقدير الله لا يحدث في تلك الليلة، فإنه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل، بل المراد إظهار تلك الليلة المقادير للملائكة في تلك الليلة بأن يكتبها في اللوح المحفوظ، وهذا القول اختيار عامة العلماء.
الثاني: نقل عن الزهري أنه قال: ليلة القدر ليلة العظمة والشرف من قولهم لفلان قدر عند فلان، أي منزلة وشرف، ويدل عليه قوله: {ليلة القدر خَيْرٌ مّنْ ألف شهر} [القدر: 3] ثم هذا يحتمل وجهين.
أحدهما: أن يرجع ذلك إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعات صار ذا قدر وشرف.
وثانيهما: إلى الفعل أي الطاعات لها في تلك الليلة قدر زائد وشرف زائد، وعن أبي بكر الوراق سميت: ليلة القدر لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر، على لسان ملك ذي قدر، على أمة لها قدر، ولعل الله تعالى إنما ذكر لفظة القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب.
والقول الثالث: ليلة القدر، أي الضيق فإن الأرض تضيق عن الملائكة.
المسألة الخامسة:
أنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه:
أحدها: أنه تعالى أخفاها، كما أخفى سائر الأشياء، فإنه أخفى رضاه في الطاعات، حتى يرغبوا في الكل، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء، وأخفى في الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف، فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان.
وثانيها: كأنه تعالى يقول: لو عينت ليلة القدر، وأنا عالم بتجاسركم على المعصية، فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة إلى المعصية، فوقعت في الذنب، فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك، فلهذا السبب أخفيتها عليك، روي أنه عليه السلام دخل المسجد فرأى نائمًا، فقال: يا علي نبهه ليتوضأ، فأيقظه على، ثم قال علي: يا رسول الله إنك سباق إلى الخيرات، فلم لم تنبهه؟ قال: لأن رده عليك ليس بكفر، ففعلت ذلك لتخف جنايته لو أبى، فإذا كان هذا رحمة الرسول، فقس عليه رحمة الرب تعالى، فكأنه تعالى يقول: إذا علمت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسب عقاب ألف شهر، ودفع العقاب أولى من جلب الثواب.
وثالثها: أني أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها، فيكتسب ثواب الاجتهاد ورابعها: أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر، فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان، على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر، فيباهي الله تعالى بهم ملائكته، يقول: كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء.
فهذا جده واجتهاده في الليلة المظنونة، فكيف لو جعلتها معلومة له! فحينئذ يظهر سر قوله: {إِنِي أَعْلَمُ مَالًا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
المسألة السادسة:
اختلفوا في أن هذه الليلة هل تستتبع اليوم؟ قال الشعبي: نعم يومها كليلتها، ولعل الوجه فيه أن ذكر الليالي يستتبع الأيام، ومنه إذا نذر اعتكاف ليلتين الزمناه بيوميهما قال تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} أي اليوم يخلف ليلته وبالضد.
المسألة السابعة:
هذه الليلة هل هي باقية؟ قال الخليل: من قال إن فضلها لنزول القرآن فيها يقول انقطعت وكانت مرة، والجمهور على أنها باقية، وعلى هذا هل هي مختصة برمضان أم لا؟ روى عن ابن مسعود أنه قال: من يقم الحول يصبها، وفسرها عكرمة بليلة البراءة في قوله: {إِنَّا أنزلناه في لَيْلَةٍ مباركة} [الدخان: 3] والجمهور على أنها مختصة برمضان واحتجوا عليه بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] وقال: {إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر} فوجب أن تكون ليلة القدر في رمضان لئلا يلزم التناقص، وعلى هذا القول اختلفوا في تعيينها على ثمانية أقوال، فقال ابن رزين: ليلة القدر هي الليلة الأولى من رمضان، وقال الحسن البصري: السابعة عشرة، وعن أنس مرفوعًا التاسعة عشرة، وقال محمد بن إسحق: الحادية والعشرون.
وعن ابن عباس الثالثة والعشرون، وقال ابن مسعود: الرابعة والعشرون، وقال أبو ذر الغفاري: الخامسة والعشرون، وقال أبي بن كعب وجماعة من الصحابة: السابعة والعشرون، وقال بعضهم: التاسعة والعشرون.
أما الذين قالوا: إنها الليلة الأولى (فقد) قالوا: روى وهب أن صحف إبراهيم أنزلت في الليلة الأولى من رمضان والتوراة لست ليال مضين من رمضان بعد صحف إبراهيم بسبعمائة سنة، وأنزل الزبور على داود لثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان بعد التوراة بخمسمائة عام وأنزل الإنجيل على عيسى لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان بعد الزبور بستمائة عام وعشرين عامًا، وكان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة قدر من السنة إلى السنة كان جبريل عليه السلام ينزل به من بيت العزة من السماء السابعة إلى سماء الدنيا، فأنزل الله تعالى القرآن في عشرين شهرًا في عشرين سنة، فلما كان هذا الشهر هو الشهر الذي حصلت فيه هذه الخيرات العظيمة، لا جرم كان في غاية الشرف والقدر والرتبة فكانت الليلة الأولى منه ليلة القدر، وأما الحسن البصري فإنه قال: هي ليلة سبعة عشر، لأنها ليلة كانت صبيحتها وقعة بدر، وأما التاسعة عشرة فقد روى أنس فيها خبرًا، وأما ليلة السابع والعشرين فقد مال الشافعي إليه لحديث الماء والطين، والذي عليه المعظم أنها ليلة السابع والعشرين، وذكروا فيه أمارات ضعيفة أحدها: حديث ابن عباس أن السورة ثلاثون كلمة، وقوله: {هي} هي السابعة والعشرون منها.
وثانيها: روي أن عمر سأل الصحابة ثم قال لابن عباس: غص يا غواص فقال زيد بن ثابت: أحضرت أولاد المهاجرين وما أحضرت أولادنا.
فقال عمر: لعلك تقول: إن هذا غلام، ولكن عنده ما ليس عندكم.
فقال ابن عباس: أحب الأعداد إلى الله تعالى الوتر أحب الوتر إليه السبعة، فذكر السموات السبع والأرضين السبع والأسبوع ودركات النار وعدد الطواف والأعضاء السبعة، فدل على أنها السابعة والعشرون.
وثالثها: نقل أيضًا عن ابن عباس، أنه قال: {ليلة القدر} تسعة أحرف، وهو مذكور ثلاث مرات فتكون السابعة والعشرين ورابعها: أنه كان لعثمان بن أبي العاص غلام، فقال: يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه ليلة من الشهر، قال: إذا كانت تلك الليلة، فأعلمني فإذا هي السابعة والعشرون من رمضان.
وأما من قال: إنها الليلة الأخيرة قال: لأنها هي الليلة التي تتم فيها طاعات هذا الشهر، بل أول رمضان كآدم وآخره كمحمد، ولذلك روي في الحديث: «يعتق في آخر رمضان بعدد ما أعتق من أول الشهر» بل الليلة الأولى كمن ولد له ذكر، فهي ليلة شكر، والأخيرة ليلة الفراق، كمن مات له ولد، فهي ليلة صبر، وقد علمت فرق ما بين الصبر والشكر.
{وَمَا أَدْرَاكَ ما ليلة القدر (2)}
ثم قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ ما ليلة القدر} يعني ولم تبلغ درايتك غاية فضلهاومنتهى علو قدرها، ثم إنه تعالى بين فضيلتها من ثلاثة أوجه:
{ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر (3)}
الأول: قوله تعالى: {ليلة القدر خَيْرٌ مّنْ ألف شهر} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في تفسير الآية وجوه:
أحدها: أن العبادة فيها خير من ألف شهر ليس فيها هذه الليلة، لأنه كالمستحيل أن يقال إنها: {خَيْرٌ مّنْ ألف شهر} فيها هذه الليلة، وإنما كان كذلك لما يزيد الله فيها من المنافع والأرزاق وأنواع الخير.
وثانيها: قال مجاهد: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد حتى يمسي فعل ذلك ألف شهر، فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من ذلك، فأنزل الله هذه الآية، أي ليلة القدر لأمتك خير من ألف شهر لذلك الإسرائيلي الذي حمل السلاح ألف شهر.
وثالثها: قال مالك بن أنس: أُري رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعمار الناس، فاستقصر أعمار أمته، وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم، فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من ألف شهر لسائر الأمم ورابعها: روى القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن، قال: قلت للحسن بن علي عليه السلام يا مسود وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعت له يعني معاوية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى في منامه بني أمية يطؤن منبره واحدًا بعد واحد، وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة، فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى: {إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر} إلى قوله: {خَيْرٌ مّنْ ألف شهر} يعني ملك بني أمية قال القاسم فحسبنا ملك بني أمية، فإذا هو ألف شهر.
طعن القاضي في هذه الوجوه فقال: ما ذكر من ألف شهر في أيام بني أمية بعيد، لأنه تعالى لا يذكر فضلها بذكر ألف شهر مذمومة، وأيام بني أمية كانت مذمومة.
واعلم أن هذا الطعن ضعيف، وذلك لأن أيام بني أمية كانت أيامًا عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يمتنع أن يقول الله تعالى إني: أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك السعادات الدنيوية.
المسألة الثانية:
هذه الآية فيها بشارة عظيمة وفيها تهديد عظيم، أما البشارة فهي أنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير، ولم يبين قدر الخيرية، وهذا كقوله عليه السلام لمبارزة على عليه السلام مع عمرو بن عبد ود (العامري) «أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة» فلم يقل مثل عمله بل قال: أفضل كأنه يقول: حسبك هذا من الوزن والباقي جزاف.
واعلم أن من أحياها فكأنما عبد الله تعالى نيفًا وثمانين سنة، ومن أحياها كل سنة فكأنه رزق أعمارًا كثيرة، ومن أحيا الشهر لينالها بيقين فكأنه أحيا ثلاثين قدرًا، يروى أنه يجاء يوم القيامة بالإسرائيلي الذي عبد الله أربعمائة سنة، ويجاء برجل من هذه الأمة، وقد عبد الله أربعين سنة فيكون ثوابه أكثر، فيقول الإسرائيلي: أنت العدل، وأرى ثوابه أكثر، فيقول: إنكم كنتم تخافون العقوبة المعجلة فتعبدون، وأمة محمد كانوا آمنين لقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ثم إنهم كانوا يعبدون، فلهذا السبب كانت عبادتهم أكثر ثوابًا، وأما التهديد فهو أنه تعالى توعد صاحب الكبيرة بالدخول في النار، وأن إحياء مائة ليلة من القدر لا يخلصه عن ذلك العذاب المستحق بتطفيف حبة واحدة، فلهذا فيه إشارة إلى تعظيم حال الذنب والمعصية.
المسألة الثالثة:
لقائل أن يقول: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أجرك على قدر نصبك» ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أشق من الطاعة في ليلة واحدة، فكيف يعقل استواؤهما؟
والجواب: من وجوه:
أحدها: أن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الوجوه المنضمة إليه، ألا ترى أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بكذا درجة، مع أن الصورة قد تنتقض فإن المسبوق سقطت عنه ركعة واحدة، وأيضًا فأنت تقول لمن يرجم: إنه إنما يرجم إنه زان فهو قول حسن، ولو قلته للنصراني فقذف يوجب التعزيز، ولو قلته للمحصن فهو يوجب الحد، فقد اختلفت الأحكام في هذه المواضع، مع أن الصورة واحدة في الكل، بل لو قلته في حق عائشة كان كفرًا، ولذلك قال: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ} وذلك لأن هذا طعن في حق عائشة التي كانت رحلة في العلم، لقوله عليه السلام: «خذوا ثلثي دينكم من هذه الحميراء» وطعن في صفوان مع أنه كان رجلًا بدريًا، وطعن في كافة المؤمنين لأنها أم المؤمنين، وللولد حق المطالبة بقذف الأم وإن كان كافرًا، بل طعن في النبي الذي كان أشد خلق الله غيره، بل طعن في حكمة الله إذ لا يجوز أن يتركه حتى يتزوج بامرأة زانية، ثم القائل بقوله: هذا زان، فقد ظن أن هذه اللفظة سهلة مع أنها أثقل من الجبال، فقد ثبت بهذا أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب لاختلاف وجوهها، فلا يبعد أن تكون الطاعة القليلة في الصورة مساوية في الثواب للطاعات الكثيرة والوجه الثاني: في الجواب أن مقصود الحكيم سبحانه أن يجر الخلق إلى الطاعات فتارة يجعل ثمن الطاعة ضعفين، فقال: {فإِنَّ مَعَ العسر يسرا إِنَّ مَعَ العسر يسرا} [الشرح: 5، 6] ومرة عشرًا، ومرة سبعمائة، وتارة بحسب الأزمنة، وتارة بحسب الأمكنة، والمقصود الأصلي من الكل جر المكلف إلى الطاعة وصرفه عن الاشتغال بالدنيا، فتارة يرجح البيت وزمزم على سائر البلاد، وتارة يفضل رمضان على سائر الشهور، وتارة يفضل الجمعة على سائر الأيام، وتارة يفضل ليلة القدر على سائر الليالي، والمقصود ما ذكرناه.
الوجه الثاني: من فضائل هذه الليلة.
قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أن نظر الملائكة على الأرواح، ونظر البشر على الأشباح، ثم إن الملائكة لما رأوا روحك محلًا للصفات الذميمة من الشهوة والغضب ما قبلوك.
فقالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء، وأبواك لما رأوا قبح صورتك في أول الأمر حين كنت منيًا وعلقة ما قبلوك أيضًا، بل أظهروا النفرة، واستقذروا ذلك المني والعلقة، وغسلوا ثيابهم عنه، ثم كم احتالوا للإسقاط والإبطال، ثم إنه تعالى لما أعطاك الصورة الحسنة فالأبوان لما رأوا تلك الصورة الحسنة قبلوك ومالوا إليك، فكذا الملائكة لما رأوا في روحك الصورة الحسنة وهي معرفة الله وطاعته أحبوك فنزلوا إليك معتذرين عما قالوه أولًا، فهذا هو المراد من قوله: {تَنَزَّلُ الملائكة} فإذا نزلوا إليك رأوا روحك في ظلمة ليل البدن، وظلمة القوى الجسمانية فحينئذ يعتذرون عما تقدم: {ويستغفرون للذين آمنوا}.
المسألة الثانية:
أن قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة} يقتضي ظاهره نزول كل الملائكة، ثم الملائكة لهم كثرة عظيمة لا تحتمل كلهم الأرض، فلهذا السبب اختلفوا فقال بعضهم: إنها تنزل بأسرها إلى السماء الدنيا، فإن قيل الإشكال بعد باق لأن السماء مملوءة بحيث لا يوجد فيها موضع إهاب إلا وفيه ملك، فكيف تسع الجميع سماء واحدة؟.
قلنا: يقضي بعموم الكتاب على خبر الواحد، كيف والمروي إنهم ينزلون فوجًا فوجًا فمن نازل وصاعد كأهل الحج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة بالكلية لكن الناس بين داخل وخارج، ولهذا السبب مدت إلى غاية طلوع الفجر فلذلك ذكر بلفظ: {تُنَزَّلَ} الذي يفيد المرة بعد المرة.
والقول.
الثاني: وهو اختيار الأكثرين أنهم ينزلون إلى الأرض وهو الأوجه، لأن الغرض هو الترغيب في إحياء هذه الليلة، ولأنه دلت الأحاديث على أن الملائكة ينزلون في سائر الأيام إلى مجالس الذكر والدين، فلأن يحصل ذلك في هذه الليلة مع علو شأنها أولى، ولأن النزول المطلق لا يفيد إلا النزول من السماء إلى الأرض، ثم اختلف من قال: ينزلون إلى الأرض على وجوه:
أحدها: قال بعضهم: ينزلون ليروا عبادة البشر وحدهم واجتهادهم في الطاعة.
وثانيها: أن الملائكة قالوا: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأمر رَبّكَ} [مريم: 64] فهذا يدل على أنهم كانوا مأمورين بذلك النزول فلا يدل على غاية المحبة.
وأما هذه الآية وهو قوله: {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} فإنها تدل على أنهم استأذنوا أولًا فأذنوا، وذلك يدل على غاية المحبة، لأنهم كانوا يرغبون إلينا ويتمنون لقاءنا.
لكن كانوا ينتظرون الإذن، فإن قيل قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون} [الصافات: 165] ينافي قوله: {تَنَزَّلُ الملائكة} قلنا نصرف الحالتين إلى زمانين مختلفين.
وثالثها: أنه تعالى وعد في الآخرة أن الملائكة:
{يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُمُ} [الرعد: 23، 24] فههنا في الدنيا إن اشتغلت بعبادتي نزلت الملائكة عليك حتى يدخلوا عليك للتسلم والزيارة، روى عن علي عليه السلام: «أنهم ينزلون ليسلموا علينا وليشفعوا لنا فمن أصابته التسليمة غفر له ذنبه»
ورابعها: أن الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إلى الأرض لتصير طاعاتهم أكثر ثوابًا، كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعته هناك أكثر ثوابًا، وكل ذلك ترغيب للإنسان في الطاعة وخامسها: أن الإنسان يأتي بالطاعات والخيرات عند حضور الأكابر من العلماء والزهاد أحسن مما يكون في الخلوة، فالله تعالى أنزل الملائكة المقربين حتى أن المكلف يعلم أنه إنما يأتي بالطاعات في حضور أولئك العلماء العباد الزهاد فيكون أتم وعن النقصان أبعد وسادسها: أن من الناس من خص لفظ الملائكة ببعض فرق الملائكة، عن كعب أن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة مما يلي الجنة، فهي على حد هواء الدنيا وهواء الآخرة، وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله يعبدون الله ومقام جبريل في وسطها، ليس فيها ملك إلا وقد أعطى الرأفة والرحمة للمؤمنين ينزلون مع جبريل ليلة القدر، فلا تبقى بقعة من الأرض إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات، وجبريل لا يدع أحدا من الناس إلا صافحهم، وعلامة ذلك من اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه، فإن ذلك من مصافحة جبريل عليه السلام، من قال فيها ثلاث مرات: لا إله إلا الله غفر له بواحدة، ونجاه من النار بواحدة، وأدخله الجنة بواحدة، وأول من يصعد جبريل حتى يصير أمام الشمس فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلا تلك الساعة من تلك الليلة ثم يدعو ملكًا ملكًا، فيصعد الكل ويجتمع نور الملائكة ونور جناح جبريل عليه السلام، فيقيم جبريل ومن معه من الملائكة بين الشمس وسماء الدنيا يومهم ذلك مشغولين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين، ولمن صام رمضان احتسابًا، فإذا أمسوا دخلوا سماء الدنيا فيجلسون حلقًا حلقًا فتجمع إليهم ملائكة السماء فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة، حتى يقولوا: ما فعل فلان وكيف وجدتموه؟ فيقولون: وجدناه عام أول متعبدًا، وفي هذا العام مبتدعًا، وفلان كان عام أول مبتدعًا، وهذا العام متعبدًا، فيكفون عن الدعاء للأول، ويشتغلون بالدعاء للثاني، ووجدنا فلانًا تاليًا، وفلانًا راكعًا، وفلانًا ساجدًا، فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدوا السماء الثانية وهكذا يفعلون في كل سماء حتى ينتهوا إلى السدرة.
فتقول لهم السدرة: يا سكاني حدثوني عن الناس فإن لي عليكم حقًا، وإني أحب من أحب الله، فذكر كعب أنهم يعدون لها الرجل والمرأة بأسمائهم وأسماء آبائهم، ثم يصل ذلك الخبر إلى الجنة، فتقول الجنة: اللهم عجلهم إلى، والملائكة، وأهل السدرة يقولون: آمين آمين، إذا عرفت هذا فنقول، كلما كان الجمع أعظم، كان نزول الرحمة هناك أكثر، ولذلك فإن أعظم الجموع في موثق الحج، لا جرم كان نزول الرحمة هناك أكثر، فكذا في ليلة القدر يحصل مجمع الملائكة المقربين، فلا جرم كان نزل الرحمة أكثر.
المسألة الثالثة:
ذكروا في الروح أقوالًا أحدها: أنه ملك عظيم، لو التقم السموات والأرضين كان ذلك له لقمة واحدة.
وثانيها: طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا ليلة القدر، كالزهاد الذين لا نراهم إلا يوم العيد.
وثالثها: خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة، ولا من الإنس، ولعلهم خدم أهل الجنة ورابعها: يحتمل أنه عيسى عليه السلام لأنه اسمه، ثم إنه ينزل في مواقفة الملائك ليطلع على أمة محمد وخامسها: أنه القرآن: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مّنْ أمرنَا} [الشورى: 52] وسادسها: الرحمة قرئ: {لا تيأسوا من روح الله} [يوسف: 87] بالرفع كأنه تعالى، يقول: الملائكة ينزلون رحمتي تنزل في أثرهم فيجدون سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وسابعها: الروح أشرف الملائكة وثامنها: عن أبي نجيح الروح هم الحفظة والكرام الكاتبون فصاحب اليمين يكتب إتيانه بالواجب، وصاحب الشمال يكتب تركه للقبيح، والأصح أن الروح هاهنا جبريل.
وتخصيصه بالذكر لزيادة شرفه كأنه تعالى يقول الملائكة في كفة والروح في كفة.
أما قوله تعالى: {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} فقد ذكرنا أن هذا يدل على أنهم كانوا مشتاقين إلينا،.
فإن قيل: كيف يرغبون إلينا مع علمهم بكثرة معاصينا؟.
قلنا: إنهم لا يقفون على تفصيل المعاصي روي أنهم يطالعون اللوح، فيرون فيه طاعة المكلف مفصلة، فإذا وصلوا إلى معاصيه أرخى الستر فلا ترونها، فحينئذ يقول: سبحان من أظهر الجميل، وستر على القبيح، ثم قد ذكرنا فوائد في نزولهم ونذكر الآن فوائد أخرى وحاصلها أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات أشياء ما رأوها في عالم السموات أحدها: أن الأغنياء يجيئون بالطعام من بيوتهم فيجعلونه ضيافة للفُقراء والفُقراء يأكلون طعام الأغنياء ويعبدون الله، وهذا نوع من الطاعة لا يوجد في السموات.
وثانيها: أنهم يسمعون أنين العصاة وهذا لا يوجد في السموات.
وثالثها: أنه تعالى قال: «لأنين المذنبين أحب إلى من زجل المسبحين» فقالوا: تعالوا نذهب إلى الأرض فنسمع صوتًا هو أحب إلى ربنا من صوت تسبيحنا، وكيف لا يكون أحب وزجل المسبحين إظهار لكمال حال المطيعين، وأنين العصاة إظهار لغفارية رب الأرض والسموات (وهذه هي المسألة الأولى).
المسألة الثانية:
هذه الآية دالة على عصمة الملائكة ونظيرها قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأمر رَبّكَ} [مريم: 64] وقوله: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} [الأنبياء: 27] وفيها دقيقة وهي أنه تعالى لم يقل: مأذونين بل قال: {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} وهو إشارة إلى أنهم لا يتصرفون تصرفًا ما إلا بإذنه، ومن ذلك قول الرجل لامرأته إن خرجت إلا بإذني، فإنه يعتبر الإذن في كل خرجة.
المسألة الثالثة:
قوله: {رَّبُّهُمْ} يفيد تعظيمًا للملائكة وتحقيرًا للعصاة، كأنه تعالى قال: كانوا لي فكنت لهم، ونظيره في حقنا: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خلق السموات والأرض} وقال لمحمد عليه السلام: {وَإِذْ قال رَبُّكَ} ونظيره ما روي أن داود لما مرض مرض الموت قال: إلهي كن لسليمان كما كنت لي، فنزل الوحي وقال: قل لسليمان فليكن لي كما كنت لي، وروي عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه فقد الضيف أيامًا فخرج بالسفرة ليلتمس ضيفًا فإذا بخيمة، فنادى أتريدون الضيف؟ فقيل: نعم، فقال للمضيف: أيوجد عندك إدام لبن أو عسل؟ فرفع الرجل صخرتين فضرب أحداهما بالأخرى فانشقا فخرج من أحداهما اللبن ومن الأخرى العسل، فتعجب إبراهيم وقال: إلهي أنا خليلك ولم أجد مثل ذلك الإكرام، فماله؟ فنزل الوحي يا خليلي كان لنا فكنا له.
أما قوله تعالى: {مّن كُلّ أمر} فمعناه تنزل الملائكة والروح فيها من أجل كل أمر، والمعنى أن كل واحد منهم إنما نزل لمهم آخر، ثم ذكروا فيه وجوهًا أحدها: أنهم كانوا في أشغال كثيرة فبعضهم للركوع وبعضهم للسجود، وبعضهم بالدعاء، وكذا القول في التفكر والتعليم، وإبلاغ الوحي، وبعضهم لإدراك فضيلة الليلة أو ليسلموا على المؤمنين.
وثانيها: وهو قول الأكثرين من أجل كل أمر قدر في تلك السنة من خير أو شر، وفيه إشارة إلى أن نزولهم إنما كان عبادة، فكأنهم قالوا: ما نزلنا إلى الأرض لهوى أنفسنا، لكن لأجل كل أمر فيه مصلحة المكلفين، وعم لفظ الأمر ليعم خير الدنيا والآخرة بيانًا منه أنهم ينزلون بما هو صلاح المكلف في دينه ودنياه كأن السائل يقول: من أين جئت؟ فيقول: مالك وهذا الفضول، ولكن قل: لأي أمر جئت لأنه حظك.
وثالثها: قرأ بعضهم: {مِن كُلّ امرئ} أي من أجل كل إنسان، وروي أنهم لا يلقون مؤمنًا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه.
قيل: أليس أنه قد روي أنه تقسم الآجال والأرزاق ليلة النصف من شعبان، والآن تقولون: إن ذلك يكون ليلة القدر؟.
قلنا: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يقدر المقادير في ليلة البراءة، فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها» وقيل: يقدر ليلة البراءة الآجال والأرزاق، وليلة القدر يقدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة، وقيل: يقدر في ليلة القدر ما يتعلق به إعزاز الدين، وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وأما ليلة البراءة فيكتب فيها أسماء من يموت ويسلم إلى ملك الموت.
{سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفجر (5)}.
الوجه الثالث: من فضائل هذه الليلة.
قوله تعالى: {سلام هي حتى مَطْلَعِ الفجر} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في قوله: {سلام} وجوه:
أحدها: أن ليلة القدر، إلى طلوع الفجر سلام أي تسلم الملائكة على المطيعين، وذلك لأن الملائكة ينزلون فوجًا فوجًا من ابتداء الليل إلى طلوع الفجر فترادف النزول لكثرة السلام.
وثانيها: وصفت الليلة بأنها سلام، ثم يجب أن لا يستحقر هذا السلام لأن سبعة من الملائكة سلموا على الخليل في قصة العجل الحنيذ، فازداد فرحه بذلك على فرحه بملك الدنيا، بل الخليل لما سلم الملائكة عليه صار نار نمروذ عليه بردًا وسلاما أفلا تصير ناره تعالى ببركة تسليم الملائكة علينا بردًا وسلامًا لكن ضيافة الخليل لهم كانت عجلًا مشويًا وهم يريدون منا قلبًا مشويًا، بل فيه دقيقة، وهي إظهار فضل هذه الأمة، فإن هناك الملائكة، نزلوا على الخليل، وههنا نزلوا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وثالثها: أنه سلام من الشرور والآفات، أي سلامة وهذا كما يقال: إنما فلان حج وغزو أي هو أبدًا مشغول بهما، ومثله: (فإنما هي إقبال وإدبار).
وقالوا تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالخيرات والسعادات ولا ينزل فيها من تقدير المضار شيء فما ينزل في هذه الليلة فهو سلام، أي سلامة ونفع وخير.
ورابعها: قال أبو مسلم: سلام أي الليلة سالمة عن الرياح والأذى والصواعق إلى ما شابه ذلك وخامسها: سلام لا يستطيع الشيطان فيها سوءًا.
وسادسها: أن الوقف عند قوله: {مّن كُلّ أمر سلام} فيتصل السلام بما قبله ومعناه أن تقدير الخير والبركة والسلامة يدوم إلى طلوع الفجر، وهذا الوجه ضعيف.
وسابعها: أنها من أولها إلى مطلع الفجر سالمة في أن العبادة في كل واحد من أجزائها خير من ألف شهر ليست كسائر الليالي في أنه يستحب للفرض الثلث الأول وللعبادة النصف وللدعاء السحر بل هي متساوية الأوقات والأجزاء.
وثامنها: سلام هي، أي جنة هي لأن من أسماء الجنة دار السلام أي الجنة المصوغة من السلامة.
المسألة الثانية:
المطلع الطلوع يقال: طلع الفجر طلوعًا ومطلعًا، والمعنى أنه يدوم ذلك السلام إلى طلوع الفجر، ومن قرأ بكسر اللام فهو اسم لوقت الطلوع وكذا مكان الطلوع مطلع قاله الزجاج: أما أبو عبيدة والفراء وغيرهما فإنهم اختاروا فتح اللام لأنه بمعنى المصدر، وقالوا: الكسر اسم نحو المشرق ولا معنى لاسم موضع الطلوع هاهنا بل إن حمل على ما ذكره الزجاج من اسم وقت الطلوع صح، قال أبو على: ويمكن حمله على المصدر أيضًا، لأن من المصادر التي ينبغي أن تكون على المفعل ما قد كسر كقولهم علاء المكبر والمعجز، قوله: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض} [البقرة: 222] فكذلك كسر المطلع جاء ش إذا عما عليه بابه.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.